إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 28 أكتوبر 2010

.زمن التداوي بالحرباء -قصة قصيرة للكاتب محمد علي شايف


زمن التداوي بالحرباء

ضيعتنا المشهورة بضيعة " الأخدود " ، المنتشرة قراها الصغيرة كالبثور على ساقي سلسلتين جبليتّين متقابلتين حرونتين شاهقتي القمم ، لعلهما كانتا في غابر الدهر صخرة جبارة هائلة ، فحدث انكسار أرضي فتقاها ذات الشمال وذات اليمين ، فكان ذلك الفج الضيق الذي يشبه كل الشبه المساحة الفاصلة بين خلفيتي الناقة المريضة .
ضيعتنا تتميز بمناخ غريب في حدة تقلبه الثنائي : إما برودة قارسة ، مصحوبة بصقيع يمر فوق جلودنا كالمدي الحادة ، فتتشقق جلودنا تشقق الأرض الطينية هجرتها الأمطار سنينا طويلة .
وإما حر قائظ يضيف إلى الجلود الخشنة حروقاً فاحمة وقروحاً ، ويخصب الحشرات الماصة للدماء ، والحاملة للأمراض المعروفة منها للعالم واللامعروفة . هكذا فالسنة في ضيعة الأخدود فصلان : صيف وشتاء . والصبر والجلد هما العقاران الشافيان اللذان يتناولها أهل ضيعتي أب عن جد.
وإلى أن كان صباح ، حجبت شمسه غيوم أوائل الشتاء تستيقظ ضيعتنا على غير عادتها : يطفو على سطوح منازلها السكون .
سقوف المنازل الصغيرة افتقدت أصحابها ، الذين يعتلونها كل صباح مع قرقراتهم وقهوة اللبن . بيد أن ثمة نقيض يصرخ في بطون المنازل ويعوي في الصدور : فالرجال من مختلف الأعمار عاكفون على المرايا الصغيرة ، وهم على ذراع القلق والحيرة .. ما الذي حل بهم.؟ ولماذا الرجال دون النساء ؟. أصبحوا على غير ما باتوا عليه . كل يتطلع في المرآة ويتساءل عن ذلك الشيء الذي أصبح ناتئاً وسط شفته السفلى ؟. شيء بحجم حلمة ثدي المراهقة ناضجة الأنوثة . أثؤلول هو ؟. أجمع أهل الأخدود أنها ثآليل وإن كانوا لا عهد لهم بها ، ولا قبل لمثلها في ضيعتهم . قلقوا لها يوماً وبضع اليوم ، ثم صارت موضوع تندر طريف وظريف يزجون به أوقات فراغهم ويفتتحون به جلسات " القات " الجماعية . ولم يمض طويل وقت على بداية ظهور داء الثآليل الجماعي ، فما هي إلى أيام وعاد الناس إلى هواجس القلق ، ووخز الاستحياء يدمي كبرياءهم . الثآليل تنمو بسرعة غريبة ، تتضخم طولياً ، ويوم عن يوم يزيد حجمها ، ويتضاعف وزنها مؤثراً على وضع الشفة . وكان ذوو الشفاه الغليظة أول العالمين بلعنة ذلك الوباء الغريب ، الذي سلطه الله على أهل الأخدود . فهم أول من أعلن الوباء عبرهم عن سوءته .
وكنا نضحك في دخيلتنا ضحكة مذعورة ، كلما شاهدناهم يعضون على شفاههم السفلى ، في محاولة بائسة لإخفاء انفلاقها ، مبرزاً لثة مقدم الفك السفلي ، كانسلاخ الثوب عن العورة...
الثآليل تواصل نموها النشط ، مصحوباً بتصلب زجاجي الملمس ، ونمت حتى غدت بحجم عقلة إبهام القدم . نصفها العلوي مثبت بالشفة لكأنه جزء منها والآخر يتدلى ملامساً الذقن ، بل ساجداً عليه .
الأيام ثقيلة تمضي والثآليل تزيد تصلباً حالكاً . ثقلت الثآليل ، تمعدنت . قطع معدنية على شفاهنا ؟. لونها الأسود ووزنها الثقيل ينسبانها إلى معدن الحديد . فظيع ما أصابنا . مرض جلدي يتصير حديداً ؟! يا للهول . هكذا ظل القلق يصرخ في أعماقنا . ولا نجرؤ على سبر غور المرض بالتجريب . فالعيش على الوهم أهون من الوقوف على الحقيقة عند العاجز ، بيد أن ظريف الضيعة " قنديل الظريف " جاء بما يقطع الشك باليقين . مر على الناس واحداً واحداً ، يضع قطعة مغناطيس على الثألول : " إنه فعلاً ثألول حديدي " هكذا أكد الجميع تأكيد الجريح بإصابة قاتلة .
ما هذا الداء الغريب ؟ لقد ثقب جدار كبرياء أهل ضيعتي وأغمد في صدورهم خناجر الخجل . فاهتزت قناعتهم بالمكتوب ، وما عاد الصبر ذلك الدواء ، الذي يواجهون به الملمات . يلعنون مآل صبرهم . فهاهي شفاههم مثل مشافر النوق الهرمة . والكلام أصبح مستحيلاً بدون استخدام اليد ، لرفع الشفة المشدودة إلى أسفل بالثألول الحديدي ، بضغط الشفة ... من وسطها . وأشد إخجالاً فوق ذلك ، إن كلمات الحروف الشفهية المخرج لا تكتمل إلا مع صوت غريب : " ط ..... وظ " طويل يصدر من جانبي الشفة انطوت ضيعتنا على دائها ، تشرنقت في خجلها الماحق . مقابلة الغير من خارج الضيعة ، صار عند أهلها أشق من مقابلة سهام الموت . ضيعتنا المسكينة ناخ على ضيقها كوكب الخزي ، فقلبت على نفسها برميل كبريائها المشقق ، و لزمت موضعها لا تبارحه إلا لضرورة قصوى . فصار الكمد والعبوس قرطا ضيعتي العائشة على فطرتها الأولى .
في تلك الأجواء الكابوسية فكرتُ بالسفر إلى المدينة لمقابلة طبيب ، عله يعين أهل ضيعتي ، ويخرجهم من الشرنقة التي نسجوها حولهم . وما كان أمامي غير تنفيذ الفكرة .
ولما بلغت المدينة ، وقد أحكمت اللثام على علتي .. تهيبت ولوجها ، خشية أن تضعني الصدفة مع صديق أو معروف . وبينما أنا في صراعي الداخلي ، أتطلع في وجوه الحركة ، لفت انتباهي كثرة الملثمين من رواد السوق ، مثلي . فيممت صوب إكمال هدفي واستغليت فرصة انقطاع مرور السيارات ، فمرقت الخط المسفلت بسرعة وحذر ، وفجأة اصطدم بجسد أحد المشاة على الضفة الأخرى للطريق ، لأن رؤيتي كانت منصبة إلى سيارة قادمة .
صرخ الرجل في وجهي – مالك ما بتشوفش – كانت ثمة تقتقة في صوته – ولما تقابلت عيوننا ، نسي صاحبي غضبه وراح يعانقني .. كان يتلثم بطرف شاله المخطط ، الذي يغطي رأسه .
" شر البلية ما يضحك " . صديقي " عنتر " يشد شفته السفلى بيسراه وراء . وأنا أدفع بنفس اليد ذات الشفة أماماً .
إنه تناقض لوجهي العملة ، وجهان للداء . يبعث الضحك حتى لدي أنا المكلوم به . اكتفينا بإبقاء الساتر على الشفة المعتلة ، لنتمكن من أداء روتين المقابلة . وثمة في صدري تسيل ضحكة محترقة .
فهل صديقي مثلي ؟. لكنه سبقني إلى الشكوى ، عما حل بجملة الناس في منطقته :" داء غريب يا عزيزي " . قال جملته بضيق وحزن.
أصغيت إليه ، وأنا أحاول كشف سر شده لشفته وراء .
الداء نفسه الذي هاجم ضيعتنا ، إنما من الناحية الأخرى ، من الداخل ، " خراج جلدي تصلب وتضخم سجّد الشفة على مقدم الأسنان" .
قال "عنتر " وابتسم فبرزت دُقمته . أدقم في ريعان الشباب ؟.
استفسرته عما أسقط أسنانه ، تضاحك وقال :
- من احتكاك هذا الجسم الغريب بالأسنان بصورة دائمة .
كان صوته يخن : خن خن .
قهقت مربتاً على كتفه وصرخت :
- نفس المرض – وصدرت الـ " ط .... وظ " فزع لها صاحبي وأنا تابعت – العلة ذاتها إنما مع الـ ط وظ هذي – وأنزلت اللثام مشيراً إلى القطعة المعلقة على شفتي كهندول الساعة . وبذلك كسرنا حاجز الخجل ، فراح " عنتر " يحدثني ، كيف إن الناس تهاونوا وتصبروا حتى استفحل الداء . والآن لجأوا إلى المشعوذين ، الذين يعالجون هذا المرض بدم الحرباء . تطلع في وجهي يستجلي رد الفعل عندي ، قطبت له حاجبي ساخراً . كنا نستند إلى سور مدخل المدينة ، وزوامير السيارات لا تتوقف عن النقيق ، والحركة الملثمة حولنا تزيد نشاطاً ، إلا أن النظام المألوف للسوق منعدماً .
وتابع صديقي وصوته يُتقتق ويخن ، رغم شده لشفته قائلاً :
- تصور أن الطبيب عندما قابلته . قال لي : عليك بدم الحرباء ....
قاطعته مستطلعاً :
- واللي تداووا بدم الحرباء – بـ ... وط – شفوا – ابتسم صديقي " للبوط " المصاحبة لصوتي .
- يقولون أنهم استفادوا .
- هراء – صرخت وتابعت – سخف أنا لا أستطيع أن أقبل ذلك ولو كان حقيقة . إن في ذلك امتهان فظ لعقل وآدمية الإنسان – أكملت جملتي بقرف وسخط غير مهتم بما يصاحب الصوت .
- وفي تلك اللحظة قفزت إلى صدارة ذاكرتي حادثة مشابهة " دم الخفاش" .
في ضيعتنا يحكون : أن من شرب دم وطواط أصبح شاعراً . فدفعني طموح المراهقة إلى التجريب . اصطدت ذات ليلة خفاشاً كبيراً ، برمي مجموعة منها على شجرة دوم بالحجارة .
أوقدت ناراً وشويته . التهمته كاملاً ، رغم رداءة لحمه ورائحته الكريهة . معتقداً أن ذلك أجدى من الدم القليل ولم تكتمل ليلتي إلا على ألم مبرح يشتعل في أحشائي ، وبدأ إسهال مصحوباً بالدم ، وقضيت أسبوعاً على تلك الحال حتى كدت أهلك . لقد تسبب لي لحم الخفاش بتسمم غذائي .
ولما تشافيت كشفت الأمر لأبي . فضحك بعنف ، ولم يعنفني على فعلتي السوداء ، بل أكد اعتقاده اليقيني ، فقال لي وهو يمسح دموع ضحكه : - إذا تشتي تصبح شاعراً ، عليك بدم الخفاش لا لحمه – عاود الضحك و أردف – وبشرط أن تغمس جناح الخفاش نفسه بالدم قبل أن تشربه .
وفعلت بما أشار عليه أبي . تجرعت الدم الشبيه بذائب شحم الجيفة . ومر عليّ صباح وآخر ، شهور وسنين ، ودم الخفاش يعجز أن ينبت فيَ شيطان الشعر ، فمازلت " مسعود بن صلاح الفلاح ".
لكزني صاحبي يستفسرني عن سبب سهومي . كنت سأروي له لولا أن ضج صوت مدوي ، توقفت له الحركة ، يصدر عن مكبر صوت . أصغينا نتابع ما يعلن عنه فإذا به يقول :
" عليكم بالحرباء ، جرعة من دمها ، جرعة فقط تقضي على دائكم هلموا إلينا .. جربوا .. هلمــ ........ "
الله كم هو بغيظ ذلك الحيوان إلى نفسي . يقع نظري عليه : تقذف معدتي محتواها – حدثت نفسي وركضت استطلع من غير أن أوادع صديقي . لعله دهش لفعلي ، ولكن لا مجال للوم في زمن التداوي بدم الحرباء .
كانت الزحمة وسط السوق كبيرة . بيد أنها زحمة متصنمة صارعت الأجساد مخترقاً الأسوار الآدمية ، حتى تصدرت الجمهرة . وأصوات الترويج للحرباء تتداخل وتتصادم من مكبرات الصوت الكبيرة والأبواق.
البضاعة الجديدة احتلت ضفتي الشارع . فثم حرباوات من تلك المألوفة مشبوكة برمة واحدة ، بشكل دائرة ، طرفها بيد رجل مهلهل الملبس ، وإلى يمينه آخر يرفع بوقاً إلى فمه يروج: " عليكم بالبلدي . دم الحرباء البلدي فيه شفائكم و ..... "
وهناك حرباوات في أقفاص شبكية وأخرى زجاجية.
معدتي إضطربت . تلولب الغثيان في بلعومي .. ملأه ودفع بزخة ماء " هوع " . وثمة سمسار يروج فوق شاحنة ضخمة من مكرفون موصل بسماعة كبيرة ، والصوت يضج ملء الفراغ : " انظروا أرقى أنواع الحرباء .. شوفوا حجمها الجبار الجميل . ان في دمها شفاءكم الأكيد . أنه علاج العصر ....."
الحرباوات غريبة فعلاً – صرت اتعتع ما بجوفي – لا هي بالقرود ولا بالثعالب . لها وجوه بشرية ، لولا القرن الحرباوي الذي حل مكان الأنف ، كورقة صبار ، معقوف وراء .
قلة من الحشد الملثم ابتاعوا من الحرباء البلدي .
زاد هياج معدتي الفارغة " أهوع " ولا أخرج شيئاً احتر جسمي ، اغتسلت بعرقي الساخن. إنها مذبحة معلنة للآدمية : سقطت . الأصوات تجلدني . وأقدام تمر عليّ.
عجلات تدهسني وغبت في خواء حالك لزج كالبصقة.

30 يناير 1997م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق